اسمي منى ودي قصتي مع الأوضة اللي محدش بيدخلها

موقع أيام نيوز

أنا اسمي منى.
وأنا صغيرة كنت بحس إن البيت بتاعنا له نفس. مش مجازًا… لأ، نفس بجد. الصبح يتقلّ، وبليل يطوّل، وكل ركن ليه ريحة وصوت. في شبرا، عمارة قديمة، سلالمها حجر يتزلّق من كتر ما الناس طلعت ونزلت عليه سنين، وتحت شباك الصالة عربية فول واقفة طول الليل، تسوّس الشارع بريحة الكمّون. كنت بحب البيت… مع إنه كان مخيف شوية. يمكن عشان فيه أوضة ماحدش بيدخلها.

الأوضة دي آخر الطرقة. طرقة طويلة تشق الشقة زي سکينة. آخرها باب بني غامق، الخشب بتاعه مشروخ، والكالون تقيل. أمي كانت تقوللي وأنا صغيرة (دي أوضة عفشة قديمة، مالكيش دعوة بيها). بس وهي بتقول الجملة دي، كانت عينها تهرب من عيني، وإيدها تمسّك طرف الروب كأنها بتداري نفسها من حاجة.

كبرت وأنا بسمع حاجات بالليل. تزييق باركيه، خبط خفيف كأن صباع طفلة بيطقّ على الخشب، وأنين بيمشي مع الهوا. لما كنت أقول لأمي، تقوللي (دي مواسير) أو (شباك الجيران)، ولما ألح، تزهق وتقول (نامي يا منى وسيبيكي من الهيافة). بس أنا كنت عارفة إن الصوت جاي من وراء الباب البني.

في ليلة من ليالي تانية إعدادي، الدنيا كانت حر وطوبة أغسطس ملتصقة في سقف البيت. رجعت من درس المزيكا، الكمان على كتفي، عرقي نازل، والشقة ساكتة. أخويا الصغير نايم، وأبويا في شغله اللي بيخلص متأخر، وأمي في المطبخ يمكن. مشيت في الطرقة… وأنا بافكر في الدرس، ولقيت نفسي واقفة قدام الباب. الكالون قدامي. مدّيت إيدي بحركة مش محسوبة، والحديدة لفت بسهولة كأنها كانت مستنّياني. الباب اتفتح.

ريحة تراب قديم باتت في الحلق. نور بسيط جاي من شباك مكسور في آخر الأوضة، بيعمل خط على الأرض. تراب متعلّق في الهوا زي هدوم بتتنفض. دخلت خطوة، اتنين. السرير الحديد مصدي، مراية كبيرة مكسور نصها ومغطى تراب على نصها التاني، ترابيزة ناشفة، كرتونة قديمة فوق بعضها. وبعدين سمعت الصوت.

(منى… تعالي)

الصوت كان شبه صوتي… بس أرفع سنة، وحروفه بتتزحلق كأنها طالعة من بقّ حد فاق من النوم لسه. لفيت على المراية، شفت انعكاسي، بس كان أصغر. طفلة شعرها منكوش، عينيها واسعة قوي، فيها سواد تقيل. كانت مبتسمة ابتسامة نصها حنين ونصها شماتة. قلبى وقع، ورجليا اتحجرت. مدّيت صباعي للمراية، حسّيت بردة جمدت دمي. الهمس قرب.

(أخيرًا… فتحتي)

نطّيت لورا، وانا بجري على الباب نور الطرقة طفى فجأة، والأوضة اتقفلت بصوت تق، وفضلت في الظلمة أسمع خطوات صغيرة حواليا، زي حد بيجري في دواير. صړخت، خبطت، صوتي رجعلي من الحيطة. في لحظة الباب اتفتح، وقعت على البلاط بره، ووشي خبط في الركنة. رفعت عيني لقيت أمي واقفة، وشها أبيض، شِفَايفها بتتهز.

قالت وهي بتاخد نفسها بالعافية (مين فتحلك الباب يا منى)

قلت وأنا بعيط (أنا… لفيته… لقيته بيفتح)

قربت مني بسرعة، شدّتني من دراعي، ولما حاولت أبص تاني جوا الأوضة، زعقت فيا بصوت ما سمعتوش منها قبل كده (الأوضة دي ما تتفتحش… الأوضة دي ما ينفعش تتفتح). وبليل وهي فاكرة إني نايمة، سمعتها بټعيط في الحمام، والمية شغالة عشان تغطي الصوت.

تاني يوم جابوا قفل جديد، كبير، وسمّروه في الباب. بس القفل ما قفلش دماغي. من يومها بقالي عادة مش فاهمة ليه: كل ما أمشي في الطرقة، أقف ثانيتين، أسمع. ساعات أسمع وشّ، ساعات خبط، ساعات حاجة زي غنوة طفولية مکسورة. ولما أنام، أحلم ببنوتة صغيرة واقفة جوه المراية، بتخبط بإيدها عالسطح المكسور وتقول (ليه سبتينا)

عدت سنين.
خلصت ثانوي، ودخلت كلية تجارة. أبويا ساب شغله في الورشة وجاله تعب في ضهره، وأمي بقيت tougher، شدّة فوق شدّة. كنت بشتغل جزئي في مكتبة عشان أصرف على كورس مزيكا، والكمان لسه صاحبي الوحيد اللي بينضّف دماغي من الأوضة. بس الأوضة برضه معايا، جوه رأسي. كل ما تبقى الدنيا هادية، صوت الطفلة يطلع، ينده على اسمي بمدّة طويلة (منااااا)

في سنة تالتة كلية، وأبويا تعبان، وأمي بتخدمه، حصلت مشكلة جديدة: جارتنا أم جمال، اللي دايمًا عندها أخبار العمارة كلها، لمحتلي حاجة وأنا نازلة.

قالتلي وهي بتعدّل إيشاربها (أمك عملت الصح… عشان الحسد والحكايات اللي ما تتقالش. بس الغلط إن الباب فضل متقفل كل السنين دي)

وقفتها على السلم وقلت (باب إيه)

حطت شفايفها في بقّها وقالت وهي بتبص حوالينها (يا بنتي ما أقدرش… أنا ما ليش دعوة). وسابتني ونزلت. قعدت على السلم دقيقة، قلبي يعزف ضربات سريعة، وحسيت إني برجع طفلة تاني. رجعت البيت، لقيت أمي في المطبخ بتقطع بصل، وسكاكينها بتطقطق على الرخامة.

قلت وأنا باحاول أخلي صوتي عادي (ماما… هو الباب ده كان بتاع مين أصلا)

ما بصّتش عليا. قالت وهي مقلّبة في الطاسة (قلتلك دي أوضة عفش… وبلاش أسئلة)

قلت (طب لما سكنّا… كانت فاضية ليه)

قالت وهي مطفية البوتاجاز (خلاص يا منى… انتِ كبرتي، وفاهمة إن الحياة أوقات لازم نسيب حاجات ورا ضهرنا)

الكلمة مسّتني في حتة ملتهبة: نسيب. بس أنا عمري ما سبّت. أنا دماغي بيحفظ كل حاجة ويفضل يعيدها. وبدل ما أسكت، لقيتني بردّ بسرعة (طب اللي ورا الضهر ده… كان بنت صغيرة)

إيدها وقفت على الطاسة ثانية واحدة، بعدين كمّلت كأنها ما سمعتش. بس أنا شُفت الرجفة في كتفها. وبالليل، حلمت للمرّة الأولى حلم مش جوا الأوضة… حلم في المستشفى. سريرين أطفال جنب بعض، واحدة منهم فاضية، والتانية عليها طفلة شعرها منكوش… بتبصلي من غير ما ترمش. صحيت على نفسي بأعيط من غير صوت.

من هنا بدأت أدوّر.
مش على الانترنت، لأن ده بيت قديم وقصته أقدم. بدأت من جارتنا اللي فوقنا، الحاجة فريدة اللي عاشت في العمارة من زمان. جبتلها سكر وشاي، وطلبت منها تدعيلي. ولما ابتسمتلي بأسنانها قليل، قلتلها بجدية (عايزة أسألك سؤال من زمان… الأوضة اللي عندنا آخر الطرقة دي حكايتها إيه)

ضحكت ضحكة مکسورة وقالت (أنا في حكايات كتير يا بنتي شُفتها هنا. الناس بتتجوز وتتطلق، ناس بتجي وناس تروح. بس الأوضة دي… كانت مليانة مرة. والفراغ اللي فيها مبقاش فراغ بعدين… بقى سرداب)

سألتها (إزاي)

قالت وهي بتبص في الطبق قدامها كأنها بتقرأ عليه كتاب (أمك كان لها بنت قبلِك بشهور قليلة قوي… وبعدها بشوية جتِ انتِ. كانوا توأم… أو شبه كده. معرفتش التفاصيل. اللي أعرفه إن في أول شهر من حياتك… حصلت حاجة خلت أمك ترجع من المستشفى بطفلة واحدة. باباكي ماكنش راضي يحكي لحد، وأمك اتقفلت جوا نفسها. والأوضة دي كانت لِلمَهد… واللبس… والصور اللي ما اتعلقتش على الحيط)

الدنيا لفت بيّا.
قلت بصوت طالع من حنجره ناشفة (يعني… كان ليا أخت)

قالت وهي بتهز رأسها ببطء (الله يرحمها… لو صح الكلام اللي اتقال ساعتها. أنا كنت لسه عروسة جديدة، وكنت بخاف أسأل. بس عيني كانت بتلقط. شُفت يومها حدّ بيرجع كرتونة كبيرة على عربية، وسمعت كلمتين عن روح بتهيم… وساعتها اتفق الباب يبقى متقفل)

رجّعت جسمي للحيطة، حسيت قلبي بيتقلب في قفصه. دماغي برجع لكل حاجة: الصوت في الأوضة، المراية، جملة (ليه سبتينا). وبليل، وأنا على السرير، قعدت أبص للسقف، والدموع بتنقط على المخدة من غير ما أعمل صوت. في اللحظة دي حسّيت بحبّ لأمي مخلوط پغضب وحزن. ليه خبت؟ ليه خلتني أكبر وأنا مش عارفة نصّي التاني كان موجود؟ ليه الأوضة بقت مقپرة من غير شاهد؟

قررت إني مش هسيبها كده.
تاني يوم الصبح، وأنا رايحة الجامعة، عدّيت على مكتب صحة شبرا. قلت للموظف إني عايزة أطلع شهادة ميلاد بدل فاقد ليا. اداني ورقة أملأ بياناتي. كتبت. وأنا ماضية، عيني وقعت على خانة (توائم). كانت فاضية. قلت يمكن مفيش. بس حاجة جوايا قالتلي دوري أكتر. روّحت على مكتب صغير جنبه أرشيف قديم، بابه نصه ألوميتال ونصه إزاز معتم. وضعيتي اتقلّبت من بنت مؤدبة لواحدة هتزوّدها. دخلت بسكوت مصطنع، وسألت الراجل الكبير اللي قاعد جوه. اديته رقم شهادة ميلادي، وقلتله (معلش لو في سجل قديم… أي حاجة تخص الحالة دي)

الراجل دوّر في دفتر أسود قديم، ضهره متقشر. قلب صفحات، وبعدين قال وهو بيزق نضارته على منخيره (أيوه… في قيد لواحدة تانية… بنفس اسم الأب والأم… تاريخها قبلِك بساعات) قال اسم قصير… قُلت له إن الاسم ده غريب. قال (ده يمكن اسم مؤقت) وبص لي وقال (حصلت ۏفاة بعد الولادة… نفس اليوم)

خرجت، والدنيا حواليا عملت صوت زنة، زي لمبة قديمة قبل ما تتحرق. قعدت على الرصيف قدام المكتب، والورقة بتترعش في إيديا. كان مكتوب كلمة في خانة سبب الۏفاة، خط مش واضح، لكن الكلمة الوحيدة اللي قريتها كويس كانت (اختناق). افتكرت أمّهات بيلفّوا ملايات، وناس بتقول نصايح، وحاجات ممكن تحصل غلط… أو حاجة حصلت لوحدها. مش مهم التفاصيل الطبية دلوقتي. المهم إن فيه حقيقة: أنا كنت اتولدت في يوم، وكان معايا نسخة تانية مني… وروحت البيت لوحدي. والأوضة اللي متقفلة… كانت ليها.

اتأخرت لحد المغرب قبل ما أرجع البيت. لقيت أمي قاعدة في الصالة، إزاز الشباك معرق، والتلفزيون على برنامج طبخ بس الصوت واطي. حطيت الشنطة على الكنبة، وقفت قدامها. حسّيت إن الكلام لو ماطلّعش هيعفّن جوايا زي فاكهة متسابَة.

قلت وأنا عيني في عينها (كان ليا أخت)

ما اتفاجئتش زي ما توقعت. وشها هدي فجأة، واتساع عينيها قلّ. كأنها سابت نفس طويل كانت حابساه من سنين.

قالت بصوت واطي قوي (مين قالك)

قلت (الورق قاللي… والبيت قاللي قبل الورق. الصوت اللي بسمعه من وانا طفلة قاللي. المراية قالتلي)

سكتت. أنا سكتُّ. المروحة سقف بتلف فوقنا بصوت ثابت. وسمعنا مع بعض حاجة في الطرقة تزيّق… معروفة قوي لودني. أمي طوّلت، وبعدين قالت جملة واحدة بس: (اسمها كان هالة)

هالة. الاسم وقع في قلبي كأنه جزء كان ناقص في بوصلة، ولما ركب، الإبرة ثبتت. أمي حكت… مش كل حاجة مرة واحدة. حكت على مراحل، وأنا كل شوية أسأل وأسكتها لما صوتها يتكسّر.

قالت إنها ولدت بدري شوية، وإن الدنيا لخبطت. قالت إنهم رجعوا البيت بطفلة واحدة، والدكاترة قالوا كلام كتير، بس اللي اتثبت في دماغها إن ربنا اختار. وقالت إنها حاولت تتماسك، بس في ليلة من الليالي، وهي لوحدها، سمعت بكاء جاي من آخر الطرقة. قامت ماشية عليه، لقت الأوضة اللي كانت مجهزة لطفلتين فاضية… بس البكاء موجود. من ليلة دي وهي بتقفل الباب، كل يوم. ولما كبرت أنا وبدأت أدندن بالمزيكا، كانت بتسمع جواها نفس اللحن مرتين. عشان كده كانت تزعقلي وأسكت. قالت إنها كانت پتخاف… مش من العفريت… پتخاف من نفسها. من فكرة إنها هتعيش الندم كل يوم لو فتحت.

قلت وأنا دموعي نازلة بس صوتي ثابت (إحنا لازم نفتح)

أمي هزّت راسها بمعنى لأ. قالت وهي عينها فيها ړعب قديم (لو فتحتي… أنا مش هقدر أعيش الليلة تاني)

قلت (مش هنعيدها… هنختمها)

فضلنا سكتين. وبالليل وأنا نايمة، سمعت الغنوة المکسورة تقوى. ما غلطتش المرة دي. صحّيت أمي وأنا شايلة إزازة مية وسجادة صلاة صغيرة. قلتلها (لو هنخاف هنفضل محبوسين). مسكت إيدي، كانت باردة زي الرخام، بس ما سحبتهاش.

روحنا الطرقة. القفل قدامنا. حسّيت أنفي يتملّى نفس ريحة التراب القديمة، كأنها بتسبقنا. جبت مفاتيح قديمة كانت في درج عند أمي، جربت واحد، اتنين، تلاتة… القفل لفّ. الباب اتنفّس.

فتحنا.

الدنيا جوا كانت أقل سواد من زمان. يمكن عشان القمر الليلة دي كان كريم، نورُه بيدخل من شباك مكسور. التراب عامل غلالة خفيفة على كل حاجة. يميننا، المراية اللي نصّها مكسور لسه مكانها. شمالنا الكرتين. وأول ما وطّيت أخد نفس، الريحة ضړبت في دماغي: بودرة أطفال راحتها راحت خلاص، بس ظلها باقي. أمي وقفت ورايا. كنت سامعة دق قلبها، أو أنا اللي قلبي كان عالي وافتكرته بتاعها. ومرة واحدة… صوت. الهمس اللي أعرفه كويس… بس أهدى، وكأنه مطمن.

(أمّي)

أنا اتخذت خطوة لجوه من غير ما أفكر. أمي مسكت دراعي بقوة وقالت بنَفَس متقطع (اسمي… اتقال). رجّعت إيدي على إيديها وقلت (اسيبيني لحظة)

قربت من المراية. انعكاسي باين، المتسوّس من الحرارة والغبار، بس ملامحي واضحة. حاجة في الزاوية حرّكت، زي لمعة خفيفة. مدّيت صباعي مكان الكسر القديم. المرة دي مفيش بردة. كان فيه دفا طالع زي نَفَس طفل. سمعت تكتكة صغيرة في الأرض. بصّيت تحت، لقيت تحت السرير صندوق خشب صغير، مقفول بقُفْل صدِد. جبت مفاتيح تاني. واحد فيهم فتح الصندوق بسلاسة ما توقعتْهاش.

جوه الصندوق لقيت حاجات بتتنفّس من الذكرى: فستان صغير أبيض عليه ورد خفيف، شراب قطن ناعم، قبّعة صغيرة مربوطة بشريط، وبطّاقة مستشفى لونها اتصفّر عليها اسم هالة. أمي أول ما شافت البطاقة، وقعت على السرير القديم كأن ضهرها اتسند على حائط كان مفقود ورجع. خدتها بإيديها الاتنين، بوسِتها، وبكت… بكت البكاء اللي بيطلع من قاع الروح.

قلت وأنا قلبي بيتهز (إحنا مأخرناشها… إحنا حبّسناها من خوفنا. لازم نواجه)

أمي هزّت راسها علامة موافقة. قلتلها (نقرأ لها الفاتحة… وبعدين أنا هعزف). رفعت حواجبها مستغربة. قلت (المزيكا كانت دايمًا السكة اللي الصوت بيعدّي منها. يمكن لازم نرجّع له سكة خروج).

جبنا كرسيين، قعدنا. فتحت الكمان. الوتر الأول كان بيزن شوية، اتوتر. قعدت أظبطه لحد ما الصوت بقى مستقيم. بدأت أنقر نقرات بسيطة، لحن طفولي بسيط، زي اللي كنت بسمعه في دماغي وأنا طفلة… بس مكمل، من غير ما يتكسر. أمي بتقرأ بصوت واطي، والدموع بتخفض وترفع نبرتها. وأنا بعزف، الهوى في الأوضة تحرّك حركة شبه نفس طويل اتسحب وطلع. في لحظة حسّيت ريحة بودرة الأطفال خفتت، والدنيا بردت.

سمعنا كلمة واحدة… جاية من مكان قريب بعيد في نفس الوقت. مفيش حركة شفايف ولا جسد. مجرد كلمة خرجت من الحيطان والأرض والمراية والدولاب والهوى. قالت:

(ليه اتأخرتوا)

أمي شهقت. وأنا قلبي وجعني ۏجع غريب، ۏجع مش بتاع خوف، بتاع حد اتحرم من حاجة وبيتأسّف. قلت جوايا وببوق الكمان في نفس اللحظة (معلش). وأمي قالت بصوت مسموع (سامحيني يا بنتي). وفضلنا كده شوية: أنا أعزف، أمي تدعي. والريح اللي كان محپوس بدأ يتحرّك. حسّيته بيلف حوالينا زي اسورة، وبعدين بيطلع.

بعد شوية، حاجة طفيفة جدًا حصلت: الزرائر الصغيرين بتوع الفستان الأبيض اتحركوا حركة لا إرادية. مش شايفة حد بيلمسه… لكن حسّيت إن المكان بيتخفّف. أمي قامت، لمست الفستان بإيدين بتترعش، وقالت وهي بتبص في الفراغ قدامها (يا هالة… يا روح قلبي… أنا كنت خاېفة… وكنت بتهرب… بس أنا موجودة. سامحيني)

المراية لمعت. انعكاسي كإنه اتضاعف لحظة، وشفت بنت صغيرة واقفة ورايا. مش واضحة قوي… كخط فحم خفيف. بس كانت حقيقية كفاية إنِّي أمدّ إيدي وأقول:

(لو زعلانة… أنا آسفة)

مافيش صوت بعدها. لكن في هوَنة واحدة حسّيت بودّة على خدّي. مش نسمة… بودّة من إيد طرية. ولما دموعي نزلت بعدها، ما كانتش تقيلة. كانت خفيفة لدرجة إني ضحكت وأنا ببكي. أمي ضحكت وهي پتبكي هي كمان.

ساعتها بس فهمت إن الحقيقة مش دايمًا ۏجع. ساعات الحقيقة بتبقى بلسم… بس بتلسع الأول.

من اليوم ده، ما قفلناش الباب بالقفل الكبير تاني. سيّبناه موارب الصبح، وبليل بنقفله عادي. في أسبوع، دخلنا الأوضة كذا مرة. لمّينا التراب على مهل، غسّلنا الفستان الأبيض بميّة ورد خفيفة، علّقناه على شماعة جنب المراية. أمي جابت برواز بسيط، كتبت بإيديها كلمة واحدة وحطتها فوق السرير: (هالة). ما فيش تواريخ، ما فيش شرح. بس الاسم كفاية.

المهم… اللي حصل بعد كده أهم من طقوس التنضيف. اللي حصل إن البيت اتغيّر. التزييق فضل، لأن الخشب قديم، والعمارة قديمة. بس الصوت اللي كان بيخبط بالليل اختفى. أو اتحوّل. بقيت أسمع مرة كل شهر تقريبًا في الفجر حاجة كده زي ضحكة طفلة بتعدي في الطرقة، سريعة زي لمعة، وتختفي. ما بخافش منها. بالعكس. بضحك وانا بستغفر. وأمي لما تسمعها تقول وهي بتسند ظهرها على الكنبة (نامي يا حبيبتي).

بس القصة مش بتخلص في أوضة. القصة بتبتدي جوا الواحد. في الشغل لما حد يكلّمني عن (الصدمة) و(الإنكار)، أنا ما بعرفش أتكلم نظري. باحكيله إن الخۏف ساعات بيخلّيك تحبس اللي بتحبه عشان ما تتوجعش… وفي الآخر الۏجع يفضل يعِضّك على خفيف عشرين سنة. إن الحقيقة مهما كانت صعبة… أسهل من التأجيل اللي بيحوّل اللي حصل إلى عفريت. إنك لازم تسمي الحاجات بأسمائها… عشان تعرف تحبها وتودّعها في نفس الوقت.

بعد شهور من فتح الأوضة، أبويا تعب أكتر. قعدنا نراعيه، وأمي رجعت تمسك البيت من أطرافه. مرة كان قاعد على الكنبة وأنا بنضف الترابيزة، بص لصور فرحهم اللي متعلقة، وبعدين بص على طرقة الأوضة وقال بهدوء غريب عليه (سامحيني يا أم منى). قميصه كان مفتوح زراره الأول، وبين عليه صدر قديم شاف شغل كتير. أمي قالت وهي تحط الشاي قدامه (سامحتك). وأنا وقفت بين الاتنين، وحسيت إن البيت أخيرًا خد نفسه كامل… من غير انقطاع.

في ذكرى الليلة اللي فتحنا فيها، قررنا نعمل حاجة بسيطة. اشترينا بالونتين بيض، وكتبنا عليهم بالقلم الفلومستر اسم هالة. طلعنا السطوح، والليل كان ساكت والسما زرقا غويط، وبعيد، نجوم قليلة. مسكنا الخيط سوا أنا وأمي، وعدّينا من واحد لعشرة وبعدين سيبناهم. طلعوا لفوق وبيصغروا، لحد ما بقوا نقطتين صغنانين وبعدين ولا حاجة. أمي قالت وهي بتبص لفوق (روحي في رحابة). وأنا قلت جوّا قلبي (وأنا كمان).

لكن تفضل فيه حاجات صغيرة تِفكرك، عشان ما تنسيش منين جيتي. في يوم كنت بعزف في الصالة، وأخويا الصغير اللي كبر وبقى أطول مني بكتير، دخل وقعد يسمع. بعد شوية قال وهو بيهرش في دماغه (اللحن ده أنا حاسس إني عارفه). قلت وأنا ببتسم (أكيد… ده لحن البيت). ضحك وقال (إنتي مچنونة). بس فضل ساكت بعدها… وفضل يسمع لحد الآخر. وبعد ما خلصت، قال وهو خارج (حلو… ريّحني). دي كانت أول مرة أحس إن المزيكا خرجت برّا الأوضة واشتغلت فينا كلنا.

مرة تانية، لقيت بنت صغيرة في الشارع قدام العمارة واقفة لوحدها بټعيط. جبتها عند البوابة وسألتها فين بيتها، دلّتنا على الدور التالت. وأنا طالعة بيها حسّيت إن قلبي بيدق نفس الدقات القديمة اللي كانت بتخوفني زمان. لكن وأنا بخبّط على باب بيتها، كان في جوايا يقين إن الخۏف ده مش هو اللي هيقودني تاني. الست فتحت، حضنت البنت، شكرتني كتير. وأنا نازلة، بصّيت على شباك الطرقة، لقيت لمعة خفيفة في إزاز مكسور. ابتسمت ومشيت.

أوقات باقعد في الأوضة وأكتب. بكتب عن حاجات عادية… وعن هالة. كتبت مرة جملة وعلّقتها تحت البرواز: (الغياب مش دايمًا فراغ… ساعات الغياب باب). لما أمي شافتها ابتسمت وقالت (باب اتقفل ولا اتفتح). قلت (الاتنين). ضحكت وقالت (يا بنتي فلسفة فلسفة). قلتلها (ما هو لازم… عشان نربط الحكاية). وأنا بكتب دلوقتي، أنا مش بكتب قصة ړعب. أنا بكتب قصة حب اتأخّر اعترافه، لكنه جه في الآخر من غير ما يتدعي القوة. جه زي مية بارده على قلب محموم.

في آخر مرة دخلت فيها الأوضة قبل ما أسيب البيت واتجوز، وقفت قدام المراية. انعكاسي كبر، كبرت، بس عيني لسه فيها فضول الطفلة. سألت في سري سؤال واحد: (هل لسه زعلانة). مافيش صوت جه. لكن في حتة في صدري اتدفّت من غير سبب. وانا خارجة، لمحت في الطرف المكشوف من المراية حاجة صغيرة: خط قلم رصاص زي ما حد كتب حرف الهاء بخجل ومسحه بسرعة. ابتسمت وقلت جوّا دماغي (شافاك).

أقفل الباب دلوقتي وأنا عارفة إنه مش بيت. الباب الحقيقي كان في قلب أمي، واتفتح، وكان في وداني، وسكّت. كان في حياتنا، واتسد بالمصارحة. لو ترجعوا تسألوني الهدف من القصة، هقول: الهدف إن السر بيخلّق وحش… وإن الاعتراف بيخليه طفل. الهدف إن الخۏف من الۏجع بيطوّل الۏجع، وإنك لما تسمّي الغايبين بأسمائهم، وتديهم مكان في البيت، ما يعودوش يطالبوك بالمكان كله. الهدف إن الأوضة اللي محدش بيدخلها لازم تتفتح… مش عشان نعيش فيها، لأ… عشان نقدر نقفلها باحترام.

ولما حد يسألني عن هالة دلوقتي، بقول بمنتهى الهدوء: (هالة أختي). مش (الله يرحمها) بس، ولا (كانت) بس. بقولها كأنها موجودة جنبنا بتسمع. يمكن عشان في الليالي الهادية قوي، لما أمي تنام وأنا أفتح البلكونة على ريحة الشارع، يجيلي نسيم خفيف ېلمس خدي… فأفتكر البودّة الأولى، وأقول:

(ما اتأخرناش… إحنا جينا لما عرفنا نمشي من غير خوف)

وبس.

تم نسخ الرابط